ثُريا ملحس ... ذكريات أيام جبل عمان ... وأول منزل

 

ثريا ملحس شاعرة واستاذة بروفيسورة جامعية من مواليد عمان سنة 1924 عاشت ما بين عمان والقدس وبيروت تَدرس وتُدرس الاداب العربية .. صدر ديوانها الشعري الاول في عام 1949 لذا يمكن اعتبارها شاعرة الاردن الاولى في العصر الحديث.
نسرد هنا مقتطفات من سيرتها الادبية والشخصية كما ورد على لسانها خلال ندوة تكريمية احتفاء بها وبتجربتها الرائدة برعاية امانة عمان الكبرى في مركز الحسين الثقافي عام 2006 حيث تقول: ''فكرت في ابتداء سيرتي في عمان بلا تفاصيل منذ قبل ولادتي.. في وادي جبل عمان حين استأجر أبي داراً قرب حارة الشابسوغ حيث تجمع الشراكسة حيث بنوا واستقروا بينهم أل لمبز وآل شردم وأمي منهما وكانت يتيمة الابوين.. وقد كفلها خالها من ال شردم وهي طفلة صغيرة، وحين اصبحت في الرابعة عشرة رأى ابي صبية شركسية شقراء جميلة فوق سطح بيتها وكان يسكن في الجوار .. رماها بحصى صغيرة ليلفتها اليه فرفعت رأسها خجلى فرأت شابا عربيا وسيماً وكان في الثامنة عشرة.
وهي لا تعرف العربية ولكنها فهمت انه يريدها شريكة في الحياة.. وفي اليوم الثاني خطفها وطار بها على فرس يجتاز المزارع الشاسعة لوجيه من وجهاء عمان سيدو الكردي حيث داره.. وودعها عنده بعد ان تفاهما وفي اليوم التالي علم خالها واعمامها بالخبر فطاروا على افراسهم يحملون البنادق نحو دار سيدو الكردي ووقفوا على بابه فتفاهموا وعادوا مسرعين الى الوادي يزفون الخبر السعيد.. ولأن امي كانت صغيرة احتضنتها زوجة عمي الاكبر وهي شقيقة حمدي انيس ابو الراغب ثم استقلت وانجب والداي وهما في الوادي اربعة من احد عشر فردا فاضطر ابي الى مساعدة امي فاشترى لها جارية سوداء من مكتب المندوب السامي البريطاني وكان البريطانيون يتاجرون بالبشر!!! وبعد سنتين ربما هربت الجارية للاقتران بمثلها فاعتقها ابي وفك العقد بينهما.

عمان قديماً

وكانت عمان في شتائها ثلجا وفيضانا تتدفق المياه هادرة من الجبال البعيدة وتصب في الوادي نحو السيل فيطوف سيل عمان بعد ان يكون جافا في الصيف ومأوى للضفادع وعلى ضفة السيل كان لأبي دكان فيه يتاجر فيفيض الماء داخل الدكان وعلى ما فيه.. ثم فكر ابي في ان يرحل من الوادي نحو مطلع الجبل الاول (جبل عمان) وكان اخر ما يصل اليه انسان!! فاشترى ارضاً كبيرة وعمّر حيث لاعمار ولا عمران.. وشق درباً لكي تحمل البغال المياه والحجارة ليبني الدار، فبدأ به في اوائل القرن العشرين من القرن الذي مضى.
ودهش الناس من جرأة ابي عبدالفتاح كيف يرحل الى مكان لا مياه ولا كهرباء ولا طريق فيه.. فالجبل الاول هو اقصى الجبال ومأوى للضباع والذئاب وربما كائنات اخرى خطيرة.
وكان ابي صبوراً وعنيداً في بحثه عن الحضارة!! وحين وصلت الكهرباء وبنى بعضهم دوراً قرب دارنا مدّ شرائط الكهرباء الظاهرة على الحيطان.. وحين جاءت المياه من حاووز جبل عمان الضخم الكبير الذي يوزع المياه على سكان الوادي حتى الجبل الاول مد القساطل في الدار.. وحين وصلت افران الغاز الغيت بوابير الكاز كما الغيت من قبل القناديل واللكسات.. وحين جاءت الثلاجات او البرادات وقويت الكهرباء الغيت النملية والصندوق الخشبي لألواح الثلج في البيت.
وهكذا بدأ الزحف العمراني ببطء لكنه اتى ووصل وحين ترك ابي دكانه في الوادي وتقلب كما قال هو نفسه في اعمال شتى صغيرة واصبحت فيما بعد كبيرة واشترى اول سيارة دودج في عمان ثم اصبح وكيلها وكان ابي عصاميا عنيدا لم يعرف الاستكانة والهدوء فشارك في انشاء بنك الامة وفي انشاء عمارتين استؤجرتا كفندقين في الوادي نحو الجبل الاول وفي طريق السلط. وتابع التجارة والتعهدات حتى انفجرت الحرب الكبرى العالمية الثانية فانسحب من كل اعماله فهو لا يحب المغامرات المستغلة.
وفي موقع اخر تروي الاديبة والناقدة د. ثريا ملحس على نشأتها في عمان اذ تقول : لقد ولدت في الربع الاول من القرن الذي مضى في وادي جبل عمان وكنت الثالثة من الاحد عشر وفي السادسة من عمري التحقت بالمدرسة الابتدائية الحكومية للبنات وقد استأجرتها الحكومة من ابي.. والمدرسة الابتدائية كانت اخر مرحلة لتعليم الاناث، وتخرجت منها بعد ست سنوات سنة 1938 وفي السنة الاخيرة من المرحلة الابتدائية وكنت دائما الاولى رسبت في درس الانشاء!! فأصبحت في الدرجة الثانية فبكيت كثيرا وهبطت الوادي لاهثة باكية لاخبر ابي.. وسبب ذلك ان معلمتنا جامدة العينين قاسية الملامح كانت تقرأ علينا نصا وتطلب منا ان نكتبه حرفيا بلا زيادة او نقصان !! فكنت احيد عنه واكتب ما اشاء!!! وكنت لا احب هذا الدرس لانه كان يقيدني.
وتتوالى مراحل الدراسة للطالبة ثريا ملحس بعد ذلك في اماكن عدة منها: المدرسة الانكليزية التبشيرية المتوسطة ثم الكلية الانجليزية الثانوية للبنات في القدس ثم الجامعة الامريكية المتوسطة للبنات في بيروت حيث تخرجت عام 1945 بدرجة اولى شرف.. وفي هذا الاثناء كان يُدرس فن الكتابة شاعر وكاتب هو الاستاد رشدي المعلوف وذات مرة طلب هذا المدرس كتابة حرة من الطالبات فكتبت ثريا صفحة واحدة حيث فوجئت الاستاذ في اليوم التالي يتحدث عنها قائلا لها ''لديك موهبة شعرية يا ثريا.. حافظي عليها وغذيها بالدربة والمطالعة ثم وضع علامة الامتياز (+A).
وفي السنة الثالثة الجامعية في الجامعة الامريكية بدأت اكتب الشعر وانشره وانا على مقاعد الدراسة وفي العام 1949 التحقت بكلية بيروت الجامعية للتدريس فيها.. ثم تابعت دراساتها في جامعة لندن للدكتوراة لكنها في العام 1981 نالت شهادة الدكتوراة الدولية (فئة اولى) من جامعة القديس يوسف اليسوعية وفي العام 1989 حصلت على رتبة (بروفيسور) وانتقلت من القديس الى الاشراف على رسائل الدكتوراة في الجامعة اللبنانية.

أول منزل على الجبل

وفي موقع اخر من سيرتها المختصرة جداً في تلك الندوة تقول الدكتورة ثريا ملحس ذات القلب الكبير والعقل المستنير والمثقفة بثقافة الحرية والانسانية فتقول ''في اواسط التسعين من القرن الماضي قررت ان استقر في عمان حيث عائلتي.. لكن عمان لم تغب ابدا عن عيني ولا عن قلبي.
واليوم اشتاق من آنٍ لآن الى ان اهبط وادي جبل عمان، مسقط راسي بسيارتي وسائقي يعرف طريقي هو نحو السيل الذي اصبح شوارع ومتفرعات فمن الدوار الرابع حيث منزلي الى الدوار الاول تنعطف سيارتي نحو اليمين ثم نحو اليسار ثم نحو اليمين حيث اصل الى الطريق الضيق الذي لم يصل اليه بعد العمار.. وهو الطريق امام دارنا الذي بناه ابي وشق طريقه بالبغال من وادي جبل عمان وما زال.. أطأطئ راسي وكنت اتساءل همساً من قبل ولا اجرؤ على قوله جهارا لان اشقائي لا يطلبون شيئا من احد.. واليوم اقول جهاراً امام امانة عمان الكبرى: الا يستحق ابي الذي شق طريقه من الوادي الى الجبل الاولى وبنى اول دار على التلة ان يسمى هذا الشارع الضيق الذي يربط ما بين وادي الجبل بأول الجبال باسم ابي، وقد كان عضواً في بلدية عمان ثم نائبا ثم رئيسااً؟! ثم تنعطف بي سيارتي نحو اليسار ثم اليمين مارة بالشوارع الواسعة المتراصة على الضفتين بالدكاكين والمحلات التجارية زاهية الالوان والاشكال .. تعج بهدير الناس.. اذ يذكرني بهدير السيل في الشتاء .. وفي منتصف رأس العين تنعطف السيارة نحو اليمين صعودا الى الدوار الرابع في جبل عمان حيث منزلي وانا ملأى حبورا وغبطة برؤية الاسواق الشعبية وهدير الناس بدلا من هدير المياه في شتاء عمان!! فأنت يا عمان مدينة التسامح والتواضع والمحبة والاخاء والامان.. مدينة العرب من كل مكان.. انت انت هو الانسان''.
وبعد فان دواوين الشعر التي صدرت للشاعر ثريا حلمي بلغت (15) ديوانا.. عدا عن الكتب الادبية والنقدية والبحثية التي قاربت (30) كتاباً ايضاً.
اخيراً ومن عبارات للدكتورة ثريا ملحس نقتطف ما يلي: ''الشقاء في الانسان اربعة امور: جمود العين.. وقسوة القلب.. والحسد الذي يأكل كل الحسنات .. والنميمة على اللسان''.