الدكتور قاسم عبد الرحيم ملحس... مؤسس أول مستشفى وطني خاص

من الصعب أن نتحدث عن الدكتور قاسم ملحس بصفته المهنية البحتة، فهو الطبيب والسياسي والإنسان المهتم بمجتمعه ووطنه وأمته.
ولد الدكتور قاسم عبد الرحيم ملحس في مدينة نابلس في فلسطين عام 1904م لعائلة تهتم بالعلم والأدب. توفي والده في صغره فرعاه أخوه الأكبر الدكتور محمد صدقي ملحس الذي كان من اوائل الأطباء في الوطن العربي، إذ تخرج من كلية الطب في استانبول سنة 1912م.


تلقى الدكتور قاسم ملحس تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس نابلس والقدس وتخرج منها. وكان أثناء العطل الصيفية يذهب إلى دمشق لزيارة عمه الشيخ رشدي ملحس، الذي كان في ذلك الوقت أمين سر لحزب الفتاة حيث تعرّف إلى العددي من رجالات العرب الوطنيين وشاركهم نشاطهم السياسي.


التحق سنة 1922 بالجامعة الامريكية في بيروت لدراسة الطب، و اشترك بنشاط ظاهر و مميز بالعمل السياسي المنظم و الذي كان يهدف لمقاومة الانجليز في فلسطين، و بسبب مواقفه الوطنية التي ابت التراجع فصل من الجامعة قبل سنة واحدة من تخرجه فالتحق بكلية الطب في الجامعة السورية في دمشق و تخرج منها سنة 1929.


رجع الى بلده نابلس في نفس السنة ليجد ان حكومة الانتداب البريطاني تلاحقه و تنوي القبض عليه بسبب نشاطه الوطني فانتقل الى عمان عاصمة شرق الاردن في ذلك الوقت و استقر بها حيث منح تصريح بتعاطي مهنة الطب صادرا عن مديرية الصحة العامة لامارة شرق الاردن رقم متسلسل "د.ط. 63 " و ذلك بتاريخ 19 أيلول 1931.


في ذلك الوقت لم يكن في عمان سوى دائرة للصحة و مستشفى حكومي صغير و مستشفى اجنبي خاص و بضعة اطباء عاملين فافتح عيادة له في شارع الرضا وسط العاصمة عمان ولم تمضي بضعة سنسن حتى اصبحت عيادته تكتظ بالمرضى من جميع ارجاء الامارة و الدول المجاورة و ملاذا لكل مريض فقير و اصبحت عيادته ناديا سياسيا للشباب الاحرار و اعضاء لحزب الاستقلال . و التحق الدكتور قاسم ملحس في الثورة الفلسطينية عام 1936 فكان يعمل طبيبا في النهار و اما في الليل فكان يهرب الثوار و الاسلحة بين سوريا و فلسطين كما كان يقوم بمعالجة الثوار في مخابئهم.


في عام 1944 حين جرح كبرياءه الوطني اذ منع من معالجة مريض له في ذلك المستشفى الاجنبي الخاص ، أنذاك اقسم ان يرد الاهانة لا بانتقام صغير و لكن بانجاز كبير، فقرر ان ينشئ مستشفى وطنيا يكسر الاحتكار و يؤكد على قدرة ابن الاردن على الانشاء و البذل في مجال صعب او شبه مستحيل. و تم ترخيص المستشفى في 14 ايار 1945 تحت الرقم 13/55/1215 و بقدرة استيعابية خمسة و ثلاثون سريرا ليكون في خدمة الطبيب و الانسان العربيين.


لم يكتفي الدكتور قاسم بشهرته التشخيصية و العلاجية و الجراحية لللاستمرار بعمله الطبي فالتحق في العام 1954 بكلية الطب في جامعة فينا عاصمة النمسا حيث حصل على دبلوم في الجراحة. و في حفل تخرجه وصفه رئيس الجمعية الجراحين الامريكية في فينا " بصاحب الانامل الذهبية" و ذلك لمهارته في اجراء العمليات الجراحية. وكان رحمه الله شغوفا بقرائة الكتب الطبية و متابعا لكل حديث في الطب و كان مشاركا في جل النشرات و المجلات الطبية التي كانت تصله من بريطانيا وأمريكا.


عاد الى عمان و ليستمر برحلته الشاقة بين "العيادة" و "المستشفى" امضاها يعيش معاناة كل بيت فيه مريض، كان يحمل حقيبته الطبية تحت المطر و بين الثلوج .. عاش حياة الناس و له مع كل اسرة قصة كان فيها الموفق و الناصح و الحكيم . اهل عمان و القرى المحيطة بها يذكرون مئات القصص الانسانية و الوطنية التي رافقت رحلته الشاقة بين العيادة و المستشفى.


وايمانا منه في مهنة الطب ارسل ابنته الكبرى الى الجامعة الامريكية في بيروت لتتعلم التمريض لتكون قدوة لغيرها من بنات الوطن و ارسل ابنه الاكبر لتعلم الطب في الجامعة الامريكية في بيروت و ابن الاصغر الى انجلترا لتعلم ادارة المستشفيات فكان اول من درس هذا الاختصاص في الاردن.
تميز الكتور قاسم ملحس بمفهومه الفريد عن علاقة الطبيب بالمريض فقد آمن بان المريض انسانا قبل كل شئ، شاركه فقره ، و شاركه افراحه و اتراحه، ووضع نفسه موضع المسؤول عن جميع ظروفه ثم داوى جراحه و آلامه . لم يؤمن بذلك صمتا او كلاما بل مارسه فعلا و عملا اختط لنفسه دربا سمي فيما بعد بدرب قاسم لاداب مهنة الطب كان يحث الاطباء الحديثوا التخرج على اتباعه:


• تعرف على جغرافية البلاد من مدينة و قرية و خربة و جبل ونهر .. فلكل ارض مرض
• لا تجعل ميزان عملك الدراهم.. ان اخذت كثيرا من الغني فاحفظه لتعطي الفقير
• لا يغشنك المنظر الخارجي للمريض .. فليس كل من كان لابسا او نظيفا يملك المال
• لا تترك مريضا و لك عليه دين ... سامحه بما لك عليه ، يرجع اليك
• لا تستغل حاجة المريض اليك ... اعمل اولا لانقاذه .. و بعدها ان اختلفت معه او مع اهله فذلك امر آخر
• حسن علاقتك مع زملائك و أعمل على تطوير تلك العلاقة
• شارك مجتمعك افراحه و احزانه
• حافظ على اسرار مريضك
• تابع كل ما ينشأ من تطور بالطب فللمريض حق عليك ان تكون عالما
• لا تتكلم بالتجارة او تفكر بها ... لان الطب و التجارة لا يجتمعان
• الطب رسالة اما الطبيب التاجر فيخفي الحقيقة

وقد ساهم الدكتور قاسم ملحس في تأسيس نقابة الاطباء الاردنيه عام 1952 مع نخبة طيبة من الاطباء و كان عضوا فاعلا و قد كرمته النقابة عام 1969 بصفته من الاطباء الرواد في الاردن.


في عام 1971 كرمه ابناء الاردن في احتفال اقامه نادي الاردن تقديرا له على عطائه لمجتمعه لرجل اعطى اكثر مما اخذ.
توفى الدكتور قاسم عبد الرحيم ملحس عام 1985 عن واحد و ثمانون عاما بعد عطاء لم يتوقف في حقل االطب استمر اكثر من خمسون عاما و خلف ورائه مكتبة طبية فريدة و ارثا من القصص عن تفانيه في خدمة الانسان و الطبيب العربيين.


وفي 22 تموز 1995 و بمناسبة مرور 50 عاما على تأسيس مستشفاه منح الدكتور قاسم ملحس وسام الاستقلال من الدرجة الاولى موشحا بالتوقيع السامي لجلالة المرحوم الملك الحسين بن طلال.


بعد وفاته في 11 آذار 1986 كرمه مجلس وزراء الصحة العرب بجائزة تقديرا و اعترافا بما قام قام به لخدمة الانسان العربي ة تخليدا لذكراه الطيبة